فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} غايةٌ للفتحِ منْ حيثُ إنَّه مترتبٌ على سعيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إعلاءِ كلمةِ الله تعالى بمكابدةِ مشاقِّ الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ، والالتفاتُ إلى اسم الذاتِ المستتبعِ لجميعِ الصفاتِ للإشعارِ بأن كلَّ واحدٍ ممَّا انتظم في سلك الغايةِ من أفعالِه تعالى صادرٌ عنه تعالى من حيثيةٍ غيرِ حيثيةِ الآخرِ مترتبةٍ على صفةٍ من صفاتِه تعالى: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي جميعَ ما فرَطَ منك من تركِ الأَوْلى، وتسميتُه ذنبًا بالنظرِ إلى منصبه الجليلِ.
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإعلاءِ الدِّين وضمِّ الملكِ إلى النبوةِ وغيرهما مما أفاضَه عليه من النعمِ الدينيةِ والدنيويةِ.
{وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيمًا} في تبليغِ الرسالةِ وإقامةِ مراسمِ الرياسةِ. وأصلُ الاستقامةِ وإن كانتْ حاصلةً قبلَ الفتحِ لكنْ حصلَ بعد ذلكَ من اتِّضاحِ سبلِ الحقِّ واستقامةِ مناهجهِ ما لم يكُنْ حاصلًا قبلُ.
{وَيَنصُرَكَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لكونِه خاتمةَ الغاياتِ ولإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأنِ النصرِ كما يعربُ عنه تأكيدُه بقوله تعالى: {نَصْرًا عَزِيزًا} أي نصرًا فيه عزةٌ أو قويًا منيعًا على وصفِ المصدرِ بوصفِ صاحبِه مجازًا للمبالغةِ أو عزيزًا صاحبُه.
{هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} بيانٌ لما أفاضَ عليهم منْ مبادِي الفتحِ من الثباتِ والطُّمأنينةِ أي أنزلَها {فِى قُلُوبِ المؤمنين} بسبب الصلحِ والأمنِ إظهارًا لفضلِه تعالى عليهم بتيسيرِ الأمنِ بعد الخوفِ {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} أي يقينًا مُنضمًا إلى يقينِهم أو أنزل فيها السكونَ إلى ما جاءَ به عليهِ الصلاةُ والسلامُ من الشرائعِ ليزدادُوا إيمانًا بها مقرونًا مع إيمانِهم بالوحدانيةِ واليومِ الآخرِ عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ أولَ ما أتاهُم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم التوحيدُ ثم الصلاةُ والزكاةُ ثم الحجُّ والجهادُ فازدادُوا إيمانًا معَ إيمانِهم، أو أنزلَ فيها الوقارَ والعظمةَ لله تعالى ولرسولِه ليزدادوا باعتقادِ ذلك إيمانًا إلى إيمانهم.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} يدبرُ أمَرها كيفما يريدُ يسلطُ بعضَها على بعضٍ تارةً ويوقعُ بينهما السلمَ أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَمِ والمصالحِ {وَكَانَ الله عَلِيمًا} مُبالغًا في العلمِ بجميعِ الأمورِ {حَكِيمًا} في تقديرِه وتدبيرِه.
وقوله تعالى: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ ما ذُكِرَ من كونِ جنودِ السمواتِ والأرضِ لهُ تعالى من مَعْنى التصرفِ والتدبيرِ أي دبرَ ما دبرَ من تسليطِ المؤمنينَ ليعرفُوا نعمةَ الله في ذلكَ ويشكرُوها فيدخلَهم الجنةَ {وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي يُغطيها ولا يُظهرها. وتقديمُ الإدخالِ في الذكرِ على التكفيرِ مع أن الترتيبَ في الوجودِ على العكسِ للمسارعةِ إلى بيانِ ما هو المطلبُ الأَعْلى {وَكَانَ ذلك} أي ما ذُكِرَ من الإدخالِ والتكفيرِ {عِندَ الله فَوْزًا عَظِيمًا} لا يُقادرُ قدره لأنَّه مُنتهى ما يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ من جلبِ نفعٍ ودفعِ ضُرَ. وعندَ الله حالٌ منْ فَوزًا لأنَّه صفتُه في الأصلِ فلمَّا قدمَ عليهِ صارَ حالًا أي كائنًا عند الله أي في علمِه تعالى وقضائِه والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ.
{وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} عطفٌ على يُدخل. وفي تقديمِ المنافقينَ على المشركينَ ما لا يَخفْى من الدلالةِ على أنَّهم أحقُّ منُهم بالعذابِ.
{الظانين بالله ظَنَّ السوء} أي ظنَّ الأمرِ السوءِ وهو أنْ لا ينصرَ رسولَه والمؤمنين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي ما يظنونَهُ ويتربصونَهُ بالمؤمنينَ فهو حائقٌ بهم ودائرٌ عليهم. وقرئ {دائرةُ السُّوء} بالضمِّ وهُمَا لُغتانِ من ساءَ، كالكُره والكَره خلا أنَّ المفتوحَ غلبَ في أنْ يضافَ إليهِ ما يُرادُ ذمُّه من كلِّ شيءٍ وأما المضمومُ فجارٍ مَجْرى الشرِّ {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} عطفٌ على ما استحقُّوه في الآخرةِ على ما استوجبُوه في الدُّنيا. والواوُ في الأخيرينِ مع أنَّ حقَّهما الفاءُ المفيدةُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدَها للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الوعيدِ وأصالتِه من غيرِ اعتبارِ استتباعِ بعضِها لبعضٍ {وَسَاءتْ مَصِيرًا} أي جهنمُ.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا}.
إعادةٌ لما سبقَ قالوا فائدتُها التنبيهُ على أنَّ لله تعالى جنودَ الرحمةِ وجنودَ العذابِ وأنَّ المرادَ هاهنا جنودُ العذابِ كما ينبىءُ عنه التعرضُ لوصفِ العزةِ.
{إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا} أيْ على أُمتكَ لقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} {وَمُبَشّرًا} على الطاعةِ {وَنَذِيرًا} على المعصيةِ.
{لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الخطابُ للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ ولأُمَّتهِ {وَتُعَزّرُوهُ} وتقوُّوه بتقويةِ دينِه ورسولِه {وَتُوَقّرُوهُ} وتُعظِّمُوه {وَتُسَبّحُوهُ} وتنزهوه أو تصلّوا له من السُّبحة.
{بُكْرَةً وَأَصِيلًا} غدوة وعشيًا. عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا: صلاةُ الفجرِ وصلاةُ الظهرِ وصلاةُ العصرِ. وقرئ الأفعالُ الأربعةُ بالياءِ التحتانيةِ، وقرئ {وتُعزِرُوه} بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الزَّاي المكسورةِ، وقرئ بفتحِ التَّاءِ وضمِّ الزَّاي وكسرِها، {وتُعززوه} بزاءينِ، {وتُوقِروه} منْ أوقَرهُ بمعنى وَقَّره.
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} أيْ على قتالِ قُريشٍ تحتَ الشجرةِ. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} خبرُ إن يعني أنَّ مبايعتَكَ هي مبايعةُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّ المقصودَ توثيقُ العهدِ بمراعاةِ أوامِره ونواهِيه. وقوله تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} حالٌ أو استثنافٌ مؤكدٌ له على طريقةِ التخييلِ، والمَعْنى أنَّ عقدَ الميثاقِ مَعِ الرسولِ كعقدِه مع الله تعالى من غيرِ تفاوتٍ بينَهما، كقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وقرئ {إنَّما يُبايعونَ لله} أي لأجلِه ولوجهِه.
{فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي فمنَ نقضَ عهدَهُ فإنَّما يعودُ ضررُ نكثِه على نفسِه. وقرئ بكسرِ الكافِ.
{وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله} بضمِّ الهاءِ فإنَّه أبقَى بعد حذفِ الواوِ توسلًا بذلكَ إلى تفخيمِ لامِ الجلالةِ. وقرئ بكسرِها أيْ ومَنْ وفَّى بعهدِه.
{فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} هُو الجنةُ. وقرئ {بما عَهد}، وقرئ {فسنؤتيِه} بنونِ العظمةِ. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 13):

قوله تعالى: {سَيَقول لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقولونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان، وأضافهم إلى حضرة الرحمن، تشوف السامع إلى الخبر عمن غاب عن ذلك الجناب، وأبطأ عن حضرة تلك العمرة، فاستؤنف الإخبار عما ينافقون به بقوله تعالى: {سيقول} أي بوعد لا خلف فيه، وأكد أمر نفاقهم تنبيهًا على جلدهم فيه ووقاصهم به ولطف النبي صلى الله عليه وسلم وشدة رحمته ورفقه وشفقته فقال: {لك} أي لأنهم يعلمون أنك ألطف الخلق عشرة وأعظمهم شفقة على عباد لله، فهم يطمعون في قبولك من فساد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين، وغاب عنهم- لما عندهم من غلظ الأكباد أن الكذب بحضرتك في غاية القباحة لأنك أعظم الخلق وأفطنهم، مع ما يأتيك من الأنباء عن علام الغيوب، وحقر أمرهم بسلب العقل عنهم وجعلهم مفعولين لا فاعلين إشارة إلى أنهم طردوا عن هذا المقام، لأنهم أشرار لئام، فقال تعالى: {المخلفون} أي الذين- خلفهم الله عنك ولم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة، فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان، لأنه لا فائدة فيه فلا يؤبه له ولا يعبأ به، وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الاعتمار ندب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لذلك، وندب من الأعراب الذين حول المدينة الشريفة من كان قد أقر بالإسلام، فلم يرد الله حضورهم لأن إسلامهم لم يكن خالصًا فلو حضروا لفسد بهم الحال، وإن حفظ الله بحوله وقوته من الفساد، أعقب ذلك فسادًا آخر وهو أن يقال: إنه لم يكف عنهم الأعداء إلا الكثرة، فتخلفوا لما علم الله في تخلفهم من الحكم.
ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضرًا معه صلى الله عليه وسلم بالقلب أخرجهم بقوله: {من الأعراب} أي أهل البادية كذبًا وبهتانًا جرأة على الله ورسوله {شغلتنا} أي عن إجابتك في هذه العمرة {أموالنا وأهلونا} أي لأنا لو تركناها ضاعت، لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم: {فاستغفر} أي اطلب المغفرة {لنا} من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا.
ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له، رده تعالى بقوله منبهًا على أن من صدق مع الله لم يشغله عن شاغل، ومن شغله عنه شيء كان شومًا عليه: {يقولون} وعبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا ديدن لهم لا ينفكون عنه.
ولما صح بعد ذلك إيمان، لم يعبر بالأفواه دأبه، في المنافقين، بل قال: {بألسنتهم} أي في الشغل والاستغفار، وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفيًا للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله: {ما ليس في قلوبهم} لأنهم لم يكن شغل ولا كانت لهم نية في سؤال الاستغفار.
ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظنًا منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل: قد علم كذبهم، فماذا يقال لهم؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله: {قل} أي لهؤلاء الأغبياء واعظًا لهم مسببًا عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عاقبته: {فمن يملك لكم} أيها المخادعون {من الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له {شيئًا} يمنعكم منه {إن أراد بكم} أي خاصة {ضرًا} أي نوعًا من أنواع الضرر عظيمًا أو حقيرًا، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما فلا ينفعها حضوركم أو أهلككم أنتم {أو أراد بكم نفعًا} بحفظهما به مع غيبتكم فلا يضرها بعدكم عنها، ويحفظكم في أنفسكم، وقد علم من تصنيفه سبحانه حالهم إلى صنفين مع الإبهام أنه يكون لبعضهم الضر لأن منهم من ارتد في زمن الردة، ولبعضهم النفع لأنه ثبت على الإسلام.
ولما كان التقدير قطعًا: لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئًا من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه، فعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيرًا مما تعملون، فيخفى عليه كذبكم، وليس الأمر كما ظننتم فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى: {بل كان الله} أي المحيط أزلًا وأبدًا بكل شيء قدرة علمًا {بما تعملون} أي الجهلة {خبيرًا} أي يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
ولما أضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عليه بأمر عام، وقدمه لأنه أعم نفعًا بما فيه من الشمول، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال: {بل} أي ليس تخلفكم لما أخبرتم به من الاشتغال بالأهل والأموال {ظننتم} وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة، ليس لكم نفوذ إلى البواطن، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال: {أن لن ينقلب} ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث والمسير، قال مشيرًا إلى أن من أرسل رسولًا إلى شيء وهو لا يقدر على نصره ليبلغ ذلك الشيء إلى الغاية التي أرادها منه كان عاجزًا عما يريد: {الرسول} وعظم التابعين فقال: {والمؤمنون} معبرًا بما يحق لهم من الوصف المفهم للرسوخ وأفهم تأكيد ذلك عندهم بقوله تعالى: {إلى أهليهم أبدًا} أي لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم: ما هم في قريش إلا أكلة رأس.
ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب، قال مشيرًا بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في الحقيقة: {وزين ذلك} أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا {في قلوبكم} حتى أحببتموه.
ولما علم أن ذلك سوء، صرح به على وجه يعم غيره فقال: {وظننتم} أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه {ظن السوء} أي الذي لم يدع شيئًا مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به.
ولما انكشف جميع أمره كشف أثره فقال: {وكنتم} أي بالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة {قومًا} أي مع قوتكم على ما تحاولونه {بورًا} أي في غاية الهلاك والكساد والفساد، وعدم الخير لأنكم جبلتم على ذلك الفساد، فلا انفكاك لهم عنه، وهذا كما مضى بالنظر إلى الجميع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير، وثبتوا فلم يرتدوا.
ولما كان التقدير: ذلك لأنكم لم تؤمنوا، فمن آمن منكم ومن غيركم وأخلص، أبحناه جنة وحريرًا، عطف عليه قوله معممًا: {ومن لم يؤمن} منكم ومن غيركم {بالله} أي الذي لا موجود في الحقيقة سواه {ورسوله} أي الذي أرسله لإظهار دينه وهو الحقيق بالإضافة إليه، معبرًا عنه بالاسم الأعظم، وللزيادة في تعظيمه وتحقير شانئه وتوهية كيد التفت إلى مقام التكلم بمظهر العظمة فقال: {فإنا} أي على ما لنا من العظمة {أعتدنا} له أو لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال معلقًا للحكم بالوصف إيذانًا بأن من لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر، وإن السعير لمن كان كفره راسخًا فقال تعالى: {للكافرين} أي الذين لا يجمعون الإيمان بالمرسل والرسول فيكونون بذلك كفارًا، ويستمرون على وصف الكفر لأنهم جبلوا عليه {سعيرًا} أي نارًا شديدة الإيقاد والتلهب، فهي عظيمة الحر توجب الجنون وإيقاد الباطن بالجوع بحيث لا يشبع صاحبه والانتشار بكل شر، فإن التنكير هنا للتهويل والتعظيم، وهذه الآية مع ما أرشد السياق إلى عطفها عليه ممن يؤمن دالة- وإن كانت في سياق الشرط- على أن أكثرهم يخلص إيمانه بعد ذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{سَيَقول لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا}.
لما بيّن حال المنافقين ذكر المتخلفين، فإن قومًا من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لظنهم أنه يهزم، فإنهم قالوا أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة، فكيف يكون حالهم إذا دخلوا بلادهم وأحاط بهم العدو فاعتذروا، وقولهم {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} فيه أمران يفيدان وضوح العذر أحدهما: (قولهم) {أَمْوَالُنَا} ولم يقولوا شغلتنا الأموال، وذلك لأن جمع المال لا يصلح عذرًا (لأنه) لا نهاية له، وأما حفظ ما جمع من الشتات ومنع الحاصل من الفواتت يصلح عذرًا، فقالوا {شَغَلَتْنَا أموالنا} أي ما صار مالًا لنا لا مطلق الأموال وثانيهما: قوله تعالى: {وَأَهْلُونَا} وذلك لو أن قائلًا قال لهم: المال لا ينبغي أن يبلغ إلى درجة يمنعكم حفظه من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لكان لهم أن يقولوا: فالأهل يمنع الاشتغال بهم وحفظهم عن أهم الأمور، ثم إنهم مع العذر تضرعوا وقالوا {فاستغفر لَنَا} يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة، فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج، فكذبهم الله تعالى فقال: {يَقولونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} وهذا يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون التكذيب راجعًا إلى قولهم {فاستغفر لَنَا} وتحقيقه هو أنهم أظهروا أنهم يعتقدون أنهم مسيئون بالتخلف حتى استغفروا، ولم يكن في اعتقادهم ذلك، بل كانوا يعتقدون أنهم بالتخلف محسنون ثانيهما: قالوا {شَغَلَتْنَا} إشارة إلى أن امتناعنا لهذا لا غير، ولم يكن ذلك في اعتقادهم، بل كانوا يعتقدون امتناعهم لاعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يقهرون ويغلبون، كما قال بعده {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12] وقوله: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} معناه أنكم تحترزون عن الضرر.